نعم، إنهم في المنفى، هل في ذلك سوء ؟!، نُفي كُل الأنبياء تقريبًا عن أوطانهم، ولم يُحقّرهم أحد حتى خصومهم، غير أن الكاتب "فارع المُسلمي" سخِر من ذلك المنفى، وكأنه فعل فاضح في مكان عام.
في يوم ما، جلست إلى أحد السياسيين، قال: على الإصلاح مغادرة الحياة السياسية والعسكرية خدمة لـ "الوطن" !، وقد تكررت هذه اللافتة برِقة تدعو لتضحية ثقيلة من أجل "الوطن" فإن لم يفعلها الحزب فإنه لا يحب "الوطن"، كان صديقي السياسي منفعلًا، ومُقتنعًا أن هذا الرأي هو الأصوب لتجاوز الجمود الحاصل في البيئة الوطنية، والإسراع لتحرير صنعاء، وسألته: من هو الوطن؟ أجاب : اليمن، وسألته مُنِبِهًا: بل من هو الوطن، وليس ما هو؟
كان رأيي أن هذا الإغواء غير ممكن، لأنه يذهب بقاعدة جماهيرية عريضة لها خصوصيتها في الداخل اليمني إلى الحياد، والتبرؤ من واجبها الوطني في مواجهة عدو يحاربنا بالمصطلحات، ويزرع في عقول ذوي الرأي مفاهيمًا خطرة، تتكرر، فتخلق جدارًا عاليًا من الفشل.
ما نشره "فارع المُسلمي" كان من جملة ذلك الإغواء، رأي ساخر في صحيفة غير رصينة، مثلًا، يبدأ فارع بتبرير تواجد بعض قيادات التجمع اليمني للإصلاح في تركيا على أنه امتدادٌ لدفاعهم عن نُصب تذكاري أقاموه بعد احتجاجات الربيع العربي، متسائلًا: كيف يدافعون عن نُصب الغزاة؟!
التوصيف السياسي والعسكري لقيام الدول القديمة لا يقال عنه غزو، إلا في حالات محدودة، والوصف الأدق أنه توسعٌ طبيعي في ظل فراغ أو تعثر السلطة السابقة، وهي العباسية، وإلا لكان إعادة ترميم "قلعة القاهرة" في تعز، إحياء لـ غزو أيوبي!
ومن دروس السياسة البسيطة، تمثل المصطلحات وعاءً للمفاهيم، فعبارة واحدة توضح نهجًا إغوائيًا مُرًا، وما قبل إعلان الدول الوطنية بمفهومها الحديث، أو اختراع مصطلح "المواطن" لم يكن الحديث عن توسع الدول القوية يُسمى غزوًا على الإطلاق، إلا كما أسلفت في نطاق محدود لا يشمله التوسع العثماني.
هذا التسطيح المؤسف من كاتب أبيض تموله دولارات الأمم المتحدة التي أنشئت لرعاية مفهوم الدولة الوطنية، وبعيدًا عمّن بنى هذا النُصب التذكاري - وقد بُني حقًا في ٢٠٠٧م إبان رئاسة علي عبدالله صالح لليمن، ضمن سياق مشروع تركي عمل على تجديد مبنى "العرضي" كأحد معالم الدولة العثمانية في صنعاء - إلا أن ما يؤسف له أن يكتب أحد الشباب الأثرياء المنتمين لمشاريع الأمم المتحدة هذا الغلط دون مراجعة حصيفة من رئيس تحرير تلك الصحيفة الناطقة باللغة الإنجليزية.
في ٢٠١٧، كان مركز صنعاء للدراسات، الذي لم ينشر بحثًا رصينًا يستحق التأمل، وبدت أغلب مقالاته موجهّة بشكل مريع لتفريغ حالات نفسية مُعقدّة، رغم استلامه أموالًا ضخمة من عدة جهات تنافست على استقطابه، واستمالة إدارته. في ذلك العام، بـبدايته تحديدًا، كتب أحد المشرفين مقالًا غريبًا بمعلومات تداولت في مقهى عطن على قارعة شارع العشرين بالقاهرة، عن سعي تنظيم القاعدة الإرهابي التسلل إلى الساحل الغربي لزعزعة أمن البحر الأحمر !، نعم، لقد أُخِذت المعلومة من فم مسطول متشكك ذو خيال تآمري، ونُشِرت على أنها إحدى أخطر عبقريات التحليل في "مركز صنعاء"، كان ذلك تضليلًا أثبتته وقائع اليوم، اُستُخدِم تنظيم القاعدة كفزاعة دولية لإبقاء ميليشيا الحوثي في الحديدة، وقبل سبعة أشهر فقط أدرك الممولون الدوليون أنهم أغبياء جدًا.
هذه الخيبات مدفوعة الثمن، هدفها الإثراء غير المشروع لمجموعة من المتعجلين في الحصول على الحكمة والكتاب. قبل عامين، وجدت "فارع" في ضيافة أحد جيراني، تصافحنا بود، وجلسنا، وحولنا جيران آخرون، تعمد مهاجمتي بابتسامة مرحة، يسخر من الحكومة وينظر إليّ، ثم يلمح بأن "السيد" وهكذا وصفه- سيلتقي بالأمير، ويؤدي مناسك العُمرة، ويُحل كل شيء، وترحل الشرعية إلى الأبد.
بطرقعة أصبعين من أصابعه، نسف نصف اليمن، شدهتني هذه القدرة الجريئة على التخطيط والتنفيذ، كان يضحك بطريقة تمثيلية عن أداء بعض وزراء الحكومة لصلاة القصر، يسأل "كيف يقصرون وهم مقيمون"، كل تلك المقاومة والضحايا والأهداف والقيم والفشل والنجاح، كل شيء كتبنا عنه، وناضلنا من أجله، السنوات التي انسلخت عجافًا من أعمار اليمنيين بالنسبة إليه ستتداعى في تلك اللحظة التي "يقررها هو"، أحد الوشاة الساخرين تحدث عن خطة "مركز صنعاء" لرحيل الرئيس هادي !.
لم يكن "فارع" خائفًا من العودة للعيش في عاصمة اغتصبت علنًا أمام العالم، و تحت ظلال حُكم كهنوتي متسلط، لأنه لا يفكر في العودة. كان منفيًا بإختياره، بلا ذرية، يحب العيش وحيدًا، يفكر في اسمه المثير لفضول الأجانب، وهو اسم طالما أعاده إلى قريته البريئة، لم يُحب اسمه، لا يريد أحدًا، ولم يحب أحدًا، لا يريد القلق على حياة أحد يحبه من البقاء خارجًا بلا وطن، أو داخلًا بلا أمل.
بدا "فارع" ذلك اليوم غريبًا، مُدافعًا عن الإستسلام بقسوة، حاولت تخفيف حِدة ضحكاته الهزلية بطلب ضبط النقاش ليكون جادًا، غير أنه زاد من ضحكاته، ارتفعت قهقهاته عاليًا، سمعها المصلون في صلاة التراويح، في الأرجاء، في الطرقات، وعلى المقاهي الحارة، ضحكة رجل ينتقم، يتغذى على التشفي، ولمّا سألته عن مكان عبدالملك الحوثي في هذه الرؤية المَسلوقة التي يُصِر على أنها المخرج المثالي للصراع، تهرب من الإجابة، وسألته وسط صخب الضحكات وتعاليها: هل تقبل العودة من منفاك إلى حُكم الحوثيين؟ سمعني جيدًا غير أنه لم يجب، كان يضحك فقط، ولسبب ما - ربما بحكم عامل الجذب - بادلته الضحك، ارتفعت أصواتنا كأنها حفلة مجانين، ضحك بقية الجالسين، واهتز تلفاز المكان.