الطريق الى حقات
الساعة 12:27 صباحاً

 

يستعرض المقال عودة (حكومة بن دغر) إلى عدن.. وكيف وضعت قدمها على الأرض.. وصمدت في وجه التحديات.. وكيف تمكن رئيسها من تحويلها إلى مايشبه حكومة حرب.. وأقرب توصيف لما قام به هو "عسكرة الحكومة" ولا أقصد بهذا التوصيف أنها حملت السلاح، وإنما عاشت في بداياتها ظروف صعبة أشبه بحياة فصيل من كتيبة عسكرية في النسق الأول في خط المواجهة.

 

وقصدت ب"حقات" قصر المعاشيق كون حقات جزءاً من معاشيق، ومنها بداية الانطلاق، حيث فتحت فيها مكاتب الوزراء، وبدأت الحكومة تدب على الأرض، وتتلمس قضايا المواطنين.

 

فبعد شهرين من تعيين (الدكتور/أحمد عبيد بن دغر رئيساً للوزراء) وتحديداً يوم الأثنين 6 يونيو 2016م، عادة الحكومة العودة الفعلية إلى عدن، ولم تغادرها إلا لمهام رسمية، وكان ينوب رئيسها عند السفر نائب رئيس الوزراء وزير الداخلية اللواء/حسين عرب، والذي يعد رجل دولة من الطراز الأول، وله مواقف لاتنسى، ولعل ما يمكن أن تتعلمه من هذا الرجل هو الشجاعة والصراحة، والقوة في اتخاذ القرار.

 

صادف عودة الحكومة شهر رمضان، وكأن اختيار هذا الشهر للعودة بمثابة إعلان أن الحكومة ستتحمل معاناة المواطنين وتشاركهم الهموم وتشاطرهم المعاناة، 

وكان أول تصريح صحفي لرئيس الحكومة فور وصوله إلى مطار عدن بأن لدى حكومته رؤية واضحة لما ينبغي عمله في الملف الأمني والخدمي"، مؤكداً أن سقف التوقعات يجب أن "يكون في الحدود المعقولة".

 

لم تكن طريق العودة مفروشة بالورود والرياحين، بل محفوفة بالمخاطر، تتقاذفها الأمواج وتقف في طريقها مئات العقبات، وتحيط بها المفاوز التي تنقطع أمامها أعناق المطي.

 

اختلالات في جميع المجالات أمنياً وسياسياً واقتصادياً وعسكرياً، انعدام للخدمات، انطفاءات الكهرباء بالساعات، لامرتبات، لاسيولة نقدية، لابنك مركزي، لامباني ولا مؤسسات.. حكومة لاتملك أي مقومات للبقاء فضلاً عن التنمية والبناء، كونها في الواقع عودة وزراء بلا وزارات.

 

كانت العودة ضرورة ملحة لتثبيت قدم الشرعية على الأرض، وملامسة عن قرب لمتطلبات النهوض وتطبيع أوضاع المناطق المحررة، واستيعاب المشكلات المتعلقة بالجوانب الأمنية، وإعادة بناء أجهزة الدولة، إضافة إلى ترتيب وضع المقاومة ومعالجة قضايا الجرحى.

 

في يومٍ قائض شديد الحر حطت الطائرة رحالها في مطار عدن كان حينها أشبه بثكنة عسكرية، حواجز أمنية، وكتل خراسانية، وأكياس مملوءة بالأتربة والرمال، يتمترس خلفها جنوداً ملثمين بالسواد.

 

استقبلتهم العربات العسكرية الكبيرة والسيارات المصفحة، والأطقم العسكرية أخذتهم مسافة قصيرة، ثم قبع الواصلين من الوزراء والطاقم في إحدى الثكنات داخل المطار حتى هبطت مروحيتان، مهمتهما نقل الواصلين إلى المعاشيق على دفعات.

 

حينها طلب منهم ارتداء لباساً هوائياً كسترة نجاة في حال سقطت الطائرة في البحر (اذا سمح الله)، يخرجون سراعاً إلى الطائرة ململمين ثيابهم، واضعين اصابعهم في آذانهم حتى لاتتضرر من هدير المروحيات وكأن المرحلة القادمة ليست لحمل الكرفتات والبدلات، ولبس النظارات الشمسية وإنما للجد والمثابرة والكفاح

واذا لم تكن إلا الأسنة مركباً  

                فما حيلة المضطر الا ركوبها

 

يتواجد في مقدمة كل طائرة طيار ومساعده، وفي مؤخرتها المفتوحة يقف جنديان، يحملون رشاشات حديثة، يتهامسون بلغة غريبة لايفهما إلا أهلها، يشيرون باسلحتهم في كل الاتجاهات، وبقدر ماهو حماية للراكبين، فهو ترويع لهم أيضاً.. منظراً مخيفاً ومثيراً في آن واحد.

 

هبطتا المروحيتان تباعاً في معاشيق، عندما تنزل الأولى تحوم أختها في السماء، هبوطها أشد رعباً من صعودها، لم تترك شيئاً مما على وجه الأرض الا قلبته على وجوه الواصلين، وبدلاتهم الرسميه، ولاحتياطات أمنية كان يتأخر وصول الشنط أحياناً إلى ساعات متأخرة من الليل وقد تبقى يوماً كاملاً حتى تصل، فتظل ملابس الواصلين عليهم، أو يستعير بعضهم ثياباً من بعض العاملين في القصر. 

 

كانت رئاسة الجمهورية قد قطعت شوطاً في الترتيبات والتجهيزات، لاستقبال الحكومة وطاقمها، وكان لإدارة القصر واللواء الأول حرس رئاسي دوراً كبيراً في الترتيب والتنظيم والتهئية لعودة الحكومة واستقرارها وحمايتها.

 

قامت المراسيم الرئاسية بتوزيعهم على فلل (مجازاً) والواقع غرف صغيرة مهجورة، بعضها بلا مكيفات.. تسكنها العناكب والحشرات، يسكن في كل غرفة أثنان أو أكثر حسب المتاح.. لافرق بين وزير أو نائب أو وكيل إلا بقرار التعيين المحمول في شنطة اليد أو حقيبة الملابس.

 

تم توفير مغسلة للثياب يديرها دوبي (عامل الغسيل) ومساعدة.. ومن الطرف أنه قد يخالف بين أصحاب الملابس أحياناً فيقوم بتوزيعها اجتهاداً وفق الأحجام والمقاسات، وقد تسلم ثوباً في الصباح فتستلمه معوزاً في المساء

البس لكل حالة لبوسها

              اما نعيمها وإما بؤسها

 

لم تتعاقد الحكومة مع شركة تغذية أو مطاعم فارهة لتوفير الوجبات، أو تجلب طباخين من الهند أو أدوات من الصين، (دست المعاشيق المخزوق شاهداً على ذلك).. كان مكان الطبخ ميزاً خاصاً بالعسكر، يعمل فيه عدد من الطباخين ومعاونيهم لايتجاوزون عدد الأصابع، كانتا وجبتا الافطار والعشاء عبارة عن بقوليات تقدم في قصدير مع خبز الطاوة وكوباً من الشاي وماتيسر من البيض المسلوق.

 

وتتكون وجبة الغداء الرئيسية من أرز مع الصيد والدجاج أو اللحم نصف الناضج، مع صحناً من الفواكه حسب الموسم، وكل صحن لعشرة أشخاص أو مايقارب هذا العدد.. ومن تأخر عن وجبة وجب عليه الانتظار لما بعدها.. وجبات لاتتغير وروتين لايتبدل، وفوق ذلك كان توفيرها من الصعوبة بمكان.

 

كان من عادة الدكتور بن دغر الّا يأكل منفرداً أبداً مهما كانت الظروف، بل يتناول طعامه مع كل من حضر من الوزراء والطاقم والزوار يجلسون جميعاً على الأرض في صالة متواضعة في فلة رئيس الوزراء، لايحتاج أحداً للاستئذان عند الدخول إليها.. لا فرق بين مائدته ومائدة العسكر وأفراد الحماية اللذين يأمر بتقديم وجبتهم على الجميع.

 

كما كانت عادته أن يسأل عن أفراد طاقمه قبل الأكل، وينتظر أحياناً حتى يحضر المتأخر، وخلال الأكل يوزع مما وضع أمامه لأطراف المائدة، ويناولهم بنفسه، وهذه وأن كانت أمور عادية في نظر البعض إلا أنها سمة عظيمة اذا تحلى بها القادة وكبار القوم لما لها من أثر حميد في النفس، وتدل - أيضاً- على التواضع وسخاء النفس.

 

يتولى حماية القصر اللواء الأول حرس رئاسي، خصصت سرية منه لحماية رئيس الحكومة وأعضاءها.. مع وجود أيضاً فرق من التحالف لحماية البحر، والتفتيش الدقيق.. وبين فينة وأخرى وفي أحلى منام تسمع طلقات النار من الأعيرة الثقيلة لاسيما أن اقترب شيئاً مما قد يخشى منه أن يمس الجانب الأمني لمقر إقامة الحكومة.. اجراءات أمنية مشددة للغاية في الدخول أو الخروج، هكذا كان وضع الحكومة في البدايات. 

 

ومن المفارقات العجيبة أننا قبل 2011م كنّا نسمع بعض الشعارات التي كانت تطالب بخروج المعسكرات من المدن، وإذا بالحكومة بعدها تقبع بنفسها داخل إحدى المعسكرات.

 

باشر الوزراء أعمالهم من غرف نومهم، وكانت تُعقد اجتماعاتهم في قاعة القصر الرئاسي الوحيدة التي سلمت من الدمار أما القصر فكان كومة من الأحجار ومخلفات العمدان والجسور.

 

لم تكن المعاشيق مهيئة لادارة الدولة كونها سكناً خاصاً للرؤوساء.. يقضون فيها الإجازات والعطل وكانت من أجمل بقاع الارض خضرة وماءً يحيط بها من ثلاث جهات.. وجبلاً مطلاً على البحر، قبل أن تدمرها الحرب، ونتيجة للأوضاع الأمنية تحولت إلى مقر للرئاسة والحكومة معاً للسكن والعمل في آنٍ واحد.

 

كانت المعاناة كبيرة، وتحركات الوزراء محدودة، لاتوجد أي مواكب للوزراء خروجهم من القصر نادراً، وغالباً بصورة مخفية، وأقصى مكان يمكن أن يصلون إليه هو مطعم الشراع في صيرة للتعبير عن البيئة الآمنة.

 

كانت أول مشكلة تواجه الحكومة هي انقطاع الكهرباء بسب أزمة الوقود، فطُلبت مروحية لنقل رئيس الوزراء والمعنيين إلى مصافي عدن، ولأسباب مجهولة لم ينفذ الطلب، قرر رئيس الوزراء الخروج بموكب، فتلقى تحذيرات أمنية، فقرر الخروج بأفراد حمايته، وأعفى من حذوره عن مسؤولية تأمينه، فكان أول موكب يجوب شوارع عدن، ولم تضطر الحكومة بعدها للتنقل عبر المروحيات.

 

ختاماً: يكفي (د.بن دغر وحكومته) شرفاً أنها عادت وفي رقابها ذمة لأهل عدن ولعموم اليمن، فعادت تحمل هم الشرعية والوطن المعتدى عليه، والجمهورية المنقلب عليها.. فبذلت جهدها، وحملت أرواحها على أكفها، وحققت انجازات على كل المستويات، بحدود امكانياتها المتاحة وموارها المحدودة.

 

وسنترك للتاريخ أن يحكم بينها وبين من نصبوا مدافعهم ضدها.. وسينصفها التاريخ عاجلاً أو آجلاً.. وللحديث بقية.