رغم جسارة تصريحات الطرفين الأميركي والصيني، سواء من حيث عدم خشية الولوج إلى حرب تجارية مباشرة حال اشتعالها، أو التقليل من حجم الخسائر الناجمة عنها على كل من الطرفين.. فإن خبراء الاقتصاد يتوقعون بشكل واسع أن تتخطى الخسائر قدرة أي من الطرفين على الاستمرار قدما في هكذا حرب، مرجحين أن تسفر الأمور في النهاية عن الوصول إلى تفاهمات يقدم فيها كلا الطرفين تنازلات.
ويشير المراقبون إلى أن الطرفين لن يقدما على الاستمرار في أكثر من تهديدات «ثانوية».. نظرا لأن إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب مهتمة بنمو الاقتصاد الأميركي بشدة خلال فترة ولايته، وكذلك نمو التشغيل والأجور من أجل استمرار الدعم الانتخابي للإدارة.. بينما على الجانب الآخر فإن إدارة الرئيس شي جينبينغ لا تريد الدخول في معركة إضافية، بينما اقتصادها الكبير مهدد بمشكلات كبرى على غرار الديون.. وفي هذه الأجواء، فإن الطرفين غالبا ما سيلجآن إلى خطوات تصعيدية مدروسة تسفر عن ضغوط من أجل الحصول على أكبر التنازلات الممكنة قبل الوصول إلى «نقطة اللاعودة».
وفي تصريح له أمس، أكد وزير التجارة الأميركي ويلبر روس أن تعريفات الصين لا تمثل تهديداً بالنسبة لبلاده، موضحا أن حجم التعريفات الجديدة التي لوحت بها الصين لا تمثل أكثر من 0.3 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة.
وبينما تؤكد الصين أيضا أنها لا تخشى الدخول في معارك للدفاع عن مصالحها، إلا أنها تبدو أكثر ميلا للنأي عن الحرب المفتوحة. وقال تشو غوانغ ياو نائب وزير المالية، إن بكين لا تريد حربا تجارية، وقال للصحافيين أمس إن الحرب التجارية ستكون خسارة للطرفين، مؤكدا أن التعاون هو الاختيار الصحيح الوحيد لكلا البلدين: «الصين تريد حل القضايا مع أميركا بطريقة بناءة».
وفي أحدث حلقات تبادل الرسوم الجمركية الانتقامية، استهدفت كل من واشنطن وبكين بضائع للأخرى تقدر قيمة وارداتها السنوية بنحو 50 مليار دولار. وجاءت التعريفات على المنتجات الصينية بعد أن أصدرت وزارة التجارة الأميركية إحصاءات في فبراير (شباط) 2018 أظهرت عجزا تجاريا أميركيا مع الصين ارتفع من 28.2 مليار دولار إلى 375 مليار دولار في عام 2017.
وتهدف إدارة ترمب من فرض هذه التعريفات، التي سماها البعض «عقوبات»، إلى تقليل العجز التجاري مع الصين بمقدار 100 مليار دولار والاحتجاج على السياسات التكنولوجية الصينية، والتي تعتبرها الولايات المتحدة غير عادلة؛ وذلك على غرار ما تطلبه الصين من الشركات الأميركية التي تتطلع للعمل بالسوق المحلي الصيني من الدخول في مشروع مشترك مع الشركات المحلية ونقل التكنولوجيا وحقوق الملكية الفكرية إلى الثانية، مثل شركة «إنتل» الأميركية والتي تشاركت مع شركة «سينغواه يوني غروب» لتطوير أجهزة مودم جيل الخامس وغيرها من الشركات التي تتطلب بكين أن تنقل الشركات الأميركية أن تنقل حقوق ملكيتها الفكرية إلى الشركات الصينية، ويرغب ترمب بوقف هذه الطلبات الصينية من الشركات الأميركية.
- بكين تراهن على التأثير السياسي
وبدا قرار الصين بفرض تعريفة جمركية بنسبة 25 في المائة على فول الصويا من الولايات المتحدة بمثابة «رد قاس» على قرارات إدارة ترمب. ويعد فول الصويا جزءا أساسيا من السلة الغذائية العالمية، ويطلق عليه الصندوق العالمي للحياة البرية اسم «ملك الفول» كونه يحتوي على 38 في المائة بروتين، 3 أضعاف معدل البروتين في البيض و12 ضعف معدل البروتين في الحليب، كما يحتوي البروتين في فول الصويا على مجموعة كاملة من الأحماض الأمينية الأساسية أكثر من معظم الأطعمة الأخرى، ويستخدم في المنتجات الغذائية النباتية مثل التوفو الذي ينتج من حليب الصويا.
والصين هي أكبر مستورد لفول الصويا في العالم، وباعت المزارع الأميركية بنحو 14 مليار دولار من فول الصويا إلى الشركات الصينية العام الماضي، لذا فإن المزارعين في الحزام الزراعي الأميركي – وهم في العادة من الداعمين الأقوياء للحزب الجمهوري – قد يكون لديهم مخاوف «عميقة» بشأن التعريفات المتبادلة بين البلدين.
وقال مايك ج بنجامين، المحلل في مجموعة صن تراست الأميركية لـ«الشرق الأوسط» إن الصين وضعت في حسبانها التأثير السياسي للتعريفات الجمركية على فول الصويا الأميركي. بينما يرى «كريدي سويس» في مذكرة نشرت حديثا أن الصين في وضع غير موات للدخول في حرب تجارية مع الولايات المتحدة، وبالتالي رجح البنك أن تتفاوض الصين مع الولايات المتحدة.
- مباحثات وضغوط وتنازلات:
وفي 25 مارس (آذار) الماضي، قالت الحكومة الصينية إنها مستعدة للتفاوض مع الولايات المتحدة، كما أقرت الأخيرة أنها مستعدة للتفاوض أيضا، وبالفعل جمعت مباحثات بين ليو هي نائب رئيس مجلس الدولة الصيني و«قيصر الاقتصاد الصيني» كما هو معروف عنه، ووزير الخزانة الأميركي ستيفن منوشين والممثل التجاري الأميركي روبرت لاتهايزر، وقدمت الولايات المتحدة قائمة بالطلبات المتعلقة بفتح الأسواق الصينية بشكل أكبر أمام الصادرات الأميركية كخفض الرسوم الجمركية على السيارات الأميركية وشراء المزيد من أشباه الموصلات وإلغاء القاعدة التي تفرض دخول الشركات الأميركية في مشاريع مشتركة مع الشركات الصينية للوصول إلى السوق المحلية والسماح لشركات الخدمات المالية الأميركية بتملك نسبة الأغلبية والتي تقتصر في الوقت الحالي على 51 في المائة وخفض الدعم المقدم للشركات المملوكة للدولة والتي ترى الولايات المتحدة أن الدعم يمنح الشركات الصينية ميزة غير عادلة على نظيرتها الأميركية.
ورغم أن الصين لم توافق على جميع الطلبات المذكورة أعلاه، فإنها وافقت على تخفيض القيود على الاستثمار الأميركي وشراء المزيد من أشباه الموصلات. ويعتبر محللون ومتعاملون بالأسواق أن المفاوضات التجارية بين الاقتصادين الأكبر في العالم «سيف ذو حدين»، فعلى سبيل المثال في صناعة أشباه الموصلات، يمكن للمفاوضات إما فتح أبواب جديدة للشركات الأميركية في السوق، أو إغلاق الأبواب حتى للشركات القائمة؛ وذلك فقط يتعلق بالاتجاه الذي تتحرك فيه المفاوضات بين الجانبين.
وأنتجت الولايات المتحدة 47 في المائة من الإنتاج العالمي لأشباه الموصلات في عام 2016، واستهلكت الصين وحدها 58.5 في المائة من الإنتاج العالمي في نفس العام كونها المركز العالمي لتصنيع الحواسيب الشخصية والهواتف الذكية والإلكترونيات وفقا لتقرير «بي دبليو سي» عن نفس الفترة المذكورة.. وبما أن الصين ليس لديها الملكية الفكرية اللازمة لتصنيع أشباه الموصلات محليا، فإنها تعتمد على الواردات بأكثر من 80 في المائة من احتياجاتها لأشباه الموصلات، ودعت الصين العديد من الشركات الأجنبية لتصنيع الرقائق محليا، مما دفع شركات مثل إنتل وسامسونغ لبناء مصانع الرقائق في الصين.
وبالنظر إلى أن عائدات أشباه الموصلات العالمية وصلت إلى 400 مليار دولار في عام 2017، فإن اقتراح الصين بالموافقة على زيادة وارداتها من الولايات المتحدة أمر إيجابي، لكنه لم يكن الأكثر تأثيرا، بل على العكس أظهر حجم المشكلة بعد توسع الاحتدام بين البلدين.
- حرب خسائر
وأكد جورج فوستر، المحلل في ستاندرد تشارتر، لـ«الشرق الأوسط» أنه في حال إعلان الجانبين المزيد من الرسوم الجمركية، فإن من المحتمل أن تواجه جميع صادرات الولايات المتحدة إلى الصين تقريبا تعريفة جديدة، مما سيضر اقتصادات كل من البلدين.
وقال إن الرد الصيني كان «أكثر عدوانية» من التوقعات، حيث تمثل صادرات فول الصويا والطائرات والسيارات والمواد الكيميائية 38 في المائة من صادرات الولايات المتحدة إلى الصين، مقارنة بـ10 في المائة مستهدفة من الجانب الأخر. وبسؤاله عن أثر التصعيد المتبادل، قال إن هذا سيؤدي إلى رفع أسعار الواردات والمواد الغذائية في السوق المحلي الصيني، وسيكون على بكين إعادة التوازن داخل الأسواق.. وهو ما اعتبره «شيئا غير جيد على الإطلاق». وأكد على أن الوقت قد حان بالنسبة للطرفين للتراجع عن التعريفات الأميركية، مضيفا: «من المهم أن نلاحظ أن الولايات المتحدة قد وضعت جدولا زمنيا للتفاوض في خططها»، بحسب فوستر.
ويرى الاقتصاديون والخبراء في التجارة أنه في الوقت الذي قد يفوز فيه الرئيس الأميركي بالمعركة الحالية فإنه سيخسر في نهاية المطاف حربا تجارية، خاصة في قطاع التكنولوجيا الهام في الاقتصاد الأميركي. كما رجحوا خسارة أخرى للاقتصاد الصيني الذي يرتكز على التصدير، والذي سيكون أمامه الكثير ليخسره في الوقت الراهن جراء معركة طويلة الأمد مقارنة بالولايات المتحدة، كما أوضح كريستوفر بالدنغ في «إتش إس بي سي» لـ«الشرق الأوسط».
وقال إن الصين لديها عرضة أكبر للتضرر من العقوبات الأميركية، خاصة أن مؤسساتها المملوكة للدولة تعتمد على التصدير للاستمرار في تسديد قروضها الكبيرة. ويمثل التصدير الصيني ما يقرب من 20 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي الصيني، على العكس فإن التصدير الأميركي يمثل 11 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي.
وأصدر مجلس الأعمال الأميركي الصيني تقريرا العام الماضي يشرح فيه حيوية الصادرات إلى الصين في نمو الاقتصاد الأميركي. وأشاروا في تقريرهم إلى أن الصين هي ثالث أكبر سوق للصادرات الأميركية بعد كندا والمكسيك، في حين تضاعفت صادرات الخدمات أكثر من 400 في المائة بين عامي 2006 و2015. وتشمل صادرات السلع الأميركية إلى الصين معدات النقل والزراعة وأجهزة الكومبيوتر والإلكترونيات والكيماويات، وتظل هذه الصادرات وسيلة أساسية للحفاظ على وظائف النقل والإمداد في الموانئ الأميركية وجميع أنحاء البلاد. وشهدت معظم الولايات زيادة كبيرة في صادرات السلع والخدمات إلى الصين منذ عام 2006 حتى 2017، منها أربع ولايات شهدت نموا بأكثر من 500 في المائة خلال الفترة نفسها، وهي ألاباما ومونتانا وداكوتا الشمالية وثاوس كارولينا، و16 ولاية أخرى نمت صادرتها بأكثر من 400 في المائة في نفس الفترة المذكورة. وكانت الصين السوق الأكبر لـ3 منتجات الأكثر تصديريا لـ39 ولاية أميركية في 2016، من بينها ولايات لا ترتبط بعلاقات تجارية قوية مع الصين مثل ألاباما وأريزونا ومينسيوتا وميشيغان ونيوجيرسي ونيويورك وبنسلفانيا وأوهايو وساوث كارولينا وتينيسي.
ومما يثير مزيد من القلق أن كل طرف يعتقد أنه في حرب «استنزاف» تجارية، وسيكون له ميزة على الآخر، فالولايات المتحدة تعتقد أن الصين لديها فائض كبير وبالتالي خسارة أكبر؛ لكن صادرات الصين إلى الولايات المتحدة أقل من 3 في المائة من ناتجها الإجمالي، ورغم أنها نسبة كبيرة لكنها ليست حاسمة لخسارة الصين فعليا.
بينما تعتقد الصين من جهتها أن الأميركيين سيعارضون دفع أسعار أعلى في السلع المصنعة، بدءا من لعب الأطفال إلى الصناعات الثقيلة، وسيشكلون قوة ضاغطة على الإدارة الأميركية للعدول عن العقوبات، لكن فعليا ما تصدره الصين إلى الولايات المتحدة هو إنتاج «عالي الجودة»، على عكس المنتجات «متدينة الجودة» المصدرة من الصين إلى دول نامية أخرى، ولذلك فإنه في بعض الأحيان يمكن للمستهلك الأميركي أن يعكس الشعار الشهير عن الصفقات «رابح - رابح» إلى «خاسر - خاسر»، بمعنى أنه قد يحجم فعليا عن شراء تلك المنتجات ويتجه للبحث عن بدائل أخرى، ما سيسبب خسائر عكسية للصين؛ أيضا.